مقالات ودراسات

م .عباس محمود يكتب«الشعب صاحب قرار الحرب»

يوم الخميس الموافق 7 يونيو 1967 وكنا مجموعة أعضاء فى منظمة الشباب التابعة لتنظيم الاتحاد الإشتراكى العربى ونظراً لقيام الحرب فى 5 يونيو وطبقاً للبيانات المعلنة كنا نقضى الوقت كل فى كليته وجامعته ونرتدى الزى العسكرى ونستعد للسفر إلى تل أبيب كما كانت الإذاعات تخبرنا بذلك، وجاءنا تكليف بالتجمع فى كلية هندسة عين شمس فى المدرج الرئيسى فى الساعة الثالثة من فجر يوم الجمعة الموافق 9 يونيو 1967 وكان معى الزميلان أحمد الفلال وحسن محرم “رحمة الله عليهما” وفى الاجتماع تم إخطارنا بأن مصر قبلت وقف إطلاق النار وأن الجيش المصرى وصل إلى الضفة الغربية للقناة مما يعنى أن إسرائيل وصلت إلى الضفة الشرقية، وثارت جموع الشباب المجتمعة ثورة عارمة وكادوا أن يفتكوا بالأعضاء الذين نقلوا لنا هذا الخبر.

وكان الهدف من الاجتماع هو توزيعنا على المساجد لمحاولة تخفيف وطأة هذا الخبر على المصلين فى صلاة الجمعة وطبعاً فشلت كل هذه المحاولات وخرج الشباب جميعهم فى حالة غضب شديد وغير مستوعبين ما حدث .
وتوجهت أنا والزميلين أحمد الفلال وحسن محرم سيراً على الأقدام حتى وصلنا إلى ميدان التحرير وجلس ثلاثتنا أسفل القاعدة الجرانيتية – والتى كانت أساساً مجهزة ليوضع عليها تمثال للخديوى اسماعيل – وبدأ ثلاثتنا فى حوار هو أقرب إلى السباب بكافة أنواعه حيث أطلقنا كل ما بداخلنا من قاموس الشتائم على النظام وقادة النظام والإعلام الذى خدع الجميع وأوهموا الشعب بالكامل بأن مصر تحقق إنتصارات. وظللنا على هذا الحال حتى حوالى الساعة 2 ظهراً تقريباً وكانت هناك شاشة تابعة لمصلحة الاستعلامات أذاعت بأن الرئيس جمال عبد الناصر سوف يلقى فى خلال الساعات القادمة بياناً هاماً إلى الشعب وأخذ ثلاثتنا فى إتمام منظومة الشتائم والسباب والتساؤلات من نوعية “هو لسه عايز يكدب علينا – هو لسه له عين يقول بيان” واستمر هذا الوضع حتى أذاعت الشاشة فى الميدان أنهم سينتقلون إلى مكتب السيد الرئيس جمال عبد الناصر ليذيع البيان. وكان الصمت الكامل يحيط الميدان ويكاد يخلو من المارة فلا يوجد أى أثر لمواطنين أو حتى رجال شرطة عاديين، وعند وصول البيان إلى الجملة التى قال فيها الرئيس الراحل أنه يتحمل المسئلوية كاملة عما حدث وأنها نكسة وسيعود إلى صفوف الشعب ليمارس العمل السياسى من خلال الشعب وأن السيد زكريا محيى الدين سيتولى أعمال رئيس الجمهورية بدلاً عنه وأنه على استعداد لتحمل المسئولية كاملة عما حدث. وفى تلك اللحظة أدركت تماماً معنى جملة “وكأن على رؤوسهم الطير” وكان ثلاثتنا ينظرون إلى الفراغ كما لو كان شريط سينما توقف فجأة ولم يجرؤ أحدنا أن ينطق حرفاً واحداً وكأننا خرجنا من مدار الكون وأصبحنا فى حالة سكون وثبات ومضى وقت قصير وإذا بمجموعة لا تتجاوز المائة أو المائة وخمسون فرداً على أقصى تقدير تخرج من مبنى الاتحاد الإشتراكى فى صورة مظاهرة صغيرة تهتف “لا جمال ولا زكريا على صبرى و الإشتراكية” وسارت هذه المظاهرة حتى تجاوزت مبنى فندق هيلتون من جهة ميدان التحرير ثم تجاوزته مارة بمبنى جامعة الدول العربية، وإذ فجأة وكأنما هو مشهد من أفلام المخرج الإيطالى المشهور فى ذلك الوقت “فللينى” فوجئنا بكافة النوافذ المحيطة بالميدان وأصوات صراخ تجمع جميعها على كلمة “لأه” سيدات من مختلف الأعمار وشباب ورجال حتى الأطفال الصغار، وشد انتباهنا هذا المشهد وأعقبه على الفور أسراب كالنمل تخرج من أبواب المبانى المحيطة بالميدان سيدات بالفساتين وبالمبلابس المنزلية ورجال من مختلف الأعمار بالبيجامات أو الجلاليب أو يرتدون القميص والبنطلون وبدأوا يتوحدون فى اتجاه واحد متوجهين إلى مجلس الأمة فى ذلك الوقت والذى كان يرأسه السيد محمد أنور السادات “رئيس الجمهورية فيما بعد” وبدأت الهتافات تتوحد وإلتفتنا نبحث عن المظاهرة التى كانت تهتف “لا جمال لا زكريا على صبرى والإشتراكية” فلم نجد لها أثر وبدأ الهتاف الجديد “ناصر حنحارب” وظللنا فى أماكنا نرصد ما يحدث فالأحداث تتلاحق وفى خلال ساعات قليلة علمنا أن خطوط السكك الحديد فى كامل الجمهورية غيرت مسارها دون الإلتزام بأى مواعيد أو أى محطات، فخطوط الصعيد من أسوان مروراً بكافة محافظات الصعيد كانت تتجه جميعها إلى القاهرة أو على الأصح إلى محطة الجيزة، وخطوط الوجه البحرى بما فى ذلك الخطوط الفرعية كانت تتجه جميعها إلى القاهرة ، وكل قطار ممتلىء بكافة فئات الشعب التى تعترض على قرار التنحى.
وفى خلال بضع ساعات ونحن فى أماكنا لا نصدق ما يحدث فالشوارع أصبحت لا مكان لقدم فيها وكلها تتجه إلى مجلس الأمة والذى أصبح جميع أعضاؤه ورئيسه محاصرين بجموع الشعب الذى كان هتافها الرئيسي “ناصر حنحارب” وظللنا فى أماكنا حتى ظهر اليوم التالى والجموع تتزايد وكافة أطياف الشعب من أطفال فى سن لا يتجاوز العاشرة وحتى الرجال والسيدات الذين تجاوزوا الستين تقريباً وكانت الهتافات فى كل هذه التجمعات الغير مسبوقة تتطالب الرئيس عبد الناصر بعدم التنحى والعودة إلى الحكم.
وكان المعنى الذى استخلصناه أنا وزملائى من هذا الموقف أن مصر لم تنكسر حيث كان الهدف الرئيسى من العدوان الإسرائيلى المدعوم تماماً بالولايات المتحدة وبعض دول الغرب وفى مقدمتها بريطانيا هو التخلص من حكم عبد الناصر، ورفض الشعب لقرار التنحى هو رسالة لهذه الدول أنهم لم يصلوا إلى ما يطمعون فيه من هذا العدوان.
وهكذا نصل إلى الحقيقة التى ثار كثير من الجدل حول من صاحب قرار الحرب لنجد أن صاحب قرار الحرب الحقيقى هو الشعب المصرى بكافة طوائفه والذى قال أننا سنحارب.
ملحوظة: لجميع من قالوا أن مظاهرات رفض التنحى كانت منظمة من الدولة فأنا أقول لا يوجد أى تنظيم مهما كانت قوته و شعبيته أن يحرك هذه الجموع يومى 9،8 يونيو 1967

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »