م . عباس محمود يكتب : مواطنون بالفطرة

فى أثناء العمل فى المواقع على طول الجبهة أثناء حرب الاستنزاف التى استمرت من منتصف يونيو 1967 حتى العبور فى 6 أكتوبر 1973 فى ذلك الوقت كانت المعدات المستخدمة هى خلاطات الأسمنت والتى لا تتجاوز سعة التشغيل عن 1م3 ولم تكن مضخات الخلط الأسمنتى أو محطات الخلط الكبرى قد ظهرت بعد وكان العمل الرئيسى فى تنفيذ هذه الأعمال هم عمال التراحيل “هم طبقة من العمال قلما تجد بينهم من يستطيع القراءة أو الكتابة” حتى أننى كنت أقول عنهم أنهم يبصمون بالعافية حيث كان المستند الوحيد لإستلام أجورهم الشهرية هو التوقيع فى كشف الأجور سواء بالكتابة أو ببصمة أصبع اليد وحتى هذه البصمة لم يكونوا يجيدون عملها إلا بمساعدة مندوب الصرف الذى يأخذ بأيديهم لوضع البصمة فى المكان المطلوب. ولما كانت المواقع تتعرض لغارات العدو بصفة تكاد تكون دائمة وعند كل غارة يتم إخلاء الموقع تماماً من جميع العاملين لحمايتهم وبعد إنتهاء القصف الجوى تقوم الطائرات المغيرة بإطلاق كم من الرصاص من المدافع المركبة فيها لإصطياد أى عدد من البشر فى طريقها، وكانت المفاجأة بالنسبة لى على الأقل أن كثير منهم يقومون بمطاردة الطائرات وهم يحملون فى أيديهم الوعاء (قروانة) التى تستخدم فى نقل الخرسانة يحاولون مطاردة الطائرات المعادية وإصابتها غير عابئين بالطلقات الصادرة من الطائرات ويلوحون بما يحملونه فى أيديهم أو يقذفونه فى الهواء فى محاولة يائسة لإصابة هذه الطائرات ولم يكن أحد منا يستطيع أن يوقفهم عن هذا الفعل وعند إنتهاء الغارة كنا نحاول منعهم من العودة إلى الموقع خشية أن يكون هناك قنابل موقوتة وحتى يأتى خبراء المفرقعات لمعاينة الموقع وفى تلك اللحظة وعلى غير العادة كانت المفاجأة أن هؤلاء العمال يقفون صارخين فى وجهى “يا باشمهندز سيبنا علشان نخلص شغلنا وأولاد الفرطوس ما يلاقوش حاجة يعملوها” وطبعاً أنا لا أعرف معنى كلمة “أولاد الفرطوس” إلا أنها شتيمة. وهكذا كان عامل الترحيلة الذى لا يعرف أى مصطلح عن الوطنية أو الإنتماء الوطنى ولكنه يتصرف بتلقائية وفطرة وكل ما يعلمه أن هؤلاء الأعداء يحتلون جزء من أرضه وما يفعله هو دفاع عن الأرض والتى تمثل دفاع عن العرض.
والآن حينما استعيد هذه الذكريات والمواقف التى لم أكن استوعبها فى لحظتها يتبين لى كم الحب الذي يحمله المواطنون البسطاء لهذه البلد ولأرضها بعيداً عن الشعارات الرنانة والكلمات المنحوتة والتى تخفى المصالح الفردية الخاصة وأن هؤلاء البسطاء يقدمون درساً غير مسبوق لما يسمى حب الوطن والإنتماء له رغم أنهم لم ينالوا من خيرات الوطن إلا أقل القليل أو بصورة أوضح لم يحصلوا إلا على الفتات وبشق الأنفس، هؤلاء لم يترنموا بأغانى مثل “يا حبيبتى يا مصر أو مصر هى أمى” ولكنهم كانوا مثالاً لحب الوطن والتضحية من أجله وكان حب الوطن والتضحية من أجله دون انتظار أى مقابل بأى صورة من الصور وكانت المكافأة الوحيدة التى ينتظرونها – كما قال لى أحدهم – نفسى أشوف بلدى وقد غار هؤلاء الأوغاد عن أرضها وأن تعود أرضنا طاهرة قوية.
ولا أجد ما أضيفه حيث تعجز الكلمات مهما كانت قوتها عن نقل المشاعر أو ترجمة الأفعال التى قام بها البسطاء دون دعاية أو انتظار لأى تكريم أو اعلان ويكفيهم فخراً أنهم كانوا يقومون بهذا العمل لوجه الله والوطن.
حفظ الله مصر وشعبها وقواتها المسلحة ……