م . عباس محمود يكتب : سكك حديد سوريا من القمة إلى الحضيض

فى منتصف عام 2002 ألتقيت بالسيد المهندس مرهف مدير عام السكك الحديدية فى سوريا وأبلغنى بأنهم يستعدون لإحتفالية كبيرة بمناسبة مرور مائة عام على إنشاء أول خط حديدى فى سوريا وكذلك الإحتفال بوضع حجر الأساس لمبنى الاتحاد العربى للسكك الحديدية بمدينة حلب فى الفترة من 8 – 12 أكتوبر وطلب منى الاستعداد للسفر وحفزنى بأنه سيكون معنا الصديق العزيز المرحوم عازر فرج ( وهو الأخ والصديق الذى لم نفترق عن بعض طوال هذه الرحلة) والعديد من رجال وزارة النقل بمصر وأن من حق كل مدعو اصطحاب مرافق وأن الدعوة تشمل الحصول على خصم 50% على تذكرة الطيران لكل مدعو ومرافق ولم أتردد فى الموافقة على الفور ووصلتنا الدعوة فى الأول من أكتوبر عام 2002 وتم حجز الطائرات وكان معى نجلى الأصغر “أحمد” وسافرنا صباح يوم 8 أكتوبر 2002 حيث استغرقت الرحلة بالطائرة حوالى الساعة والنصف وعند وصولنا إلى دمشق ظهر ذلك اليوم فوجئنا بإستقبال حافل وتم فتح صالة كبار الزوار للمدعويين لهذه الإحتفالية وفى صالة الزوار تم تقديم مشروبات الترحيب وأطباق من الحلوى السورية والياميش وتم استلام الحقائب بواسطة فريق الإستقبال السورى ووضعت الحقائب فى السيارات المخصصة للوفد ثم انتقلنا إلى فندق آبيلا الشام الذى يقع فى وسط العاصمة السورية وفى المساء تم ترتيب زيارة إلى سوق الحاميدية الشهير واستقبلنا أهالى دمشق فى هذا المكان بالترحاب الشديد وفرحة وكرم نابع من القلب وبالطبع كانت مغريات الشراء كثيرة جداً بعد أن قاموا بتخفيض الأسعار للمصريين وبعد هذه الجولة عدنا إلى الفندق وأخبرونا بجولة أخرى فى الصباح لزيارة المسجد الآموى وبعض المعالم الشهيرة فى دمشق.
وكان الإحتفال سيقام فى صباح اليوم العاشر من أكتوبر فى أحدى قاعات الفندق وبحضور السيد الدكتور/ محمد مصطفى ميرو رئيس وزراء سوريا فى ذلك الوقت والسيد المهندس/ مكرم عبيد وزير النقل السورى وقيادات السكك الحديدية السورية وعقب الإحتفال كانت هناك دعوة على العشاء وحفل فنى ساهر بهذه المناسبة، وفى اليوم التالى توجهنا إلى محطة سكة حديد دمشق ثم انتقلنا بقطار مخصص لهذه الإحتفالية للذهاب إلى مدينة حلب وفى القطار تم تقديم كل ما يمكن أن تتخيله من أنواع الياميش والحلوى السورية بكافة أشكالها وبكميات تفوق عن احتياجات كافة الموجودين، ومر القطار على مدينة حماة وحمص حيث توقف فى كل مدينة لمدة ساعة كاملة كنا نغادر القطار لنذهب فى جولة سريعة لمشاهدة معالم كل مدينة ثم نعود حيث تم تجهيز وجبات غذاء من الأطعمة السورية واستغرقت الرحلة ما يقرب من سبع ساعات حيث وصلنا إلى حلب حوالى الساعة الثانية والنصف ظهراً وغادرنا القطار لإنهاء إجراءات السكن بأحد فنادق حلب الكبرى وتوجهنا إلى موقع وضع حجر الأساس بمبنى الاتحاد العربى للسكك الحديدية وبعد إنتهاء مراسم وضع حجر الأساس عدنا إلى الفندق استعداداً لحضور حفل ساهر وعشاء بقلعة حلب يبدأ فى الساعة التاسعة مساءً وبعد أن عدت إلى الفندق غادرت فوراً للقيام بجولة بعيداً عن الرسميات لمشاهدة مدينة حلب واستدعيت أحدى سيارات الأجرة وعندما علم السائق بأننى مصرى أخذنى فى جولة حول المدينة وهو يحدثنى عن مصر التى يذكرها ولا يذكر منها غير أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عندما حضر إلى حلب كانت الشوارع مغطاة باللون الأحمر الناتج عن دم الذبائح التى ذبحت احتفالاً بزيارته للمدينة وفى نهاية الجولة أصر على دعوتى لشرب الشاى فى منزله وعند دخولى المنزل وجدت صورة كبيرة للزعيم جمال عبد الناصر فى مواجهة مدخل منزله وبعد تناول الشاى وبالطبع الحلوى والمقبلات السورية أعادنى إلى الفندق ورفض بشدة أن يتقاضى أى مقابل لهذه الجولة التى استغرقت أكثر من ساعتين.
وفى المساء ذهبنا إلى قلعة حلب لحضور الإحتفال وكان اختيار المكان فى حد ذاته رحلة لتاريخ المدينة لمشاهدة أحد أكبر آثارها والتى تدل على عراقة هذه المدينة الجميلة وكان معنا فى هذه الإحتفالية السيد الدكتور/ إبراهيم الدميرى وزير النقل المصرى، وقد مر بى موقف حيث ألتقيت بأستاذى فى مادة السكك الحديدية الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن الهوارى وصافحنى بحرارة وذكر اسمى ثلاثياً وعندما شاهد ذلك الموقف المهندس/ مرهف مدير عام السكك الحديدية السورية جاء إلى وسألنى “هل تعرف الدكتور الهوارى؟” فأجبته “أنه أستاذى ومعلمى” وفوجئت بالدكتور الهوارى يقول لى “الكلام ده كان زمان أنت الآن زميل وصديق عزيز” [زمن لن يعود] وتابعنا بعد ذلك على مدى يومين إحتفالات كان الطابع الغالب عليها ندوات حول كافة الفروع والتقدم فى مجال السكك الحديدية والنقل عامة.
وعدنا من حلب إلى القاهرة حيث قامت الخطوط السورية بالسماح لنا بالركوب من حلب وعدم العودة إلى دمشق دون سداد أى زيادة فى تذاكر السفر كنوع من التيسير.
وأنا أذكر تلك الأحداث ولا أتخيل ما وصلت إليه سوريا الحبيبة من انحدار وتردى لهذا المستوى اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً وسياسياً وأشعر بغصة شديدة فى القلب وتشوش فى الذهن كيف أصبحت هذه الدولة التى كان يمثل جيشها الجيش الأول المصرى ولدينا فى مصر الجيش الثانى والثالث وكانت سوريا هى الدولة الوحيدة التى بها اكتفاء ذاتى من الغذاء ولم يكن فى ميزان مدفوعاتها أى أشارة إلى استيراد أى نوع من أنواع الغذاء المستورد وكذلك لم تكن من الدول المدينة التى ترهقها الديون.
ضاعت سوريا نتيجة للتناحر على السلطة والمناصب والتى لن تدوم لأحد لأنه لا يوجد أحد يدوم سوى الله الواحد الدائم وأتمنى أن يكون ما يحدث فى سوريا درساً لعبيد السلطة وأن الأوطان أبقى من المناصب وأتمنى أن يمتد بى العمر حتى أرى سوريا تعود إلى بهائها الضائع.