م . عباس محمود يكتب ..رد الجميل

طوال فترة العمل على الجبهة فى حرب الاستنزاف وفى عدة مناطق كان هناك سؤال يتم توجيهه إلى “لماذا كنت تصر على العمل فى الجبهة” وكان أمر التكليف الخاص بى قد صدر بالعمل فى وزارة الرى وكان مهندس الرى فى ذلك الوقت يعتبر من المحظوظين .
ولم يدرك الكثيرون الذين تساءلوا عن إصرارى للعمل على الجبهة وكان هناك سببان رئيسيان الأول هو محاولتى لأن أحظى بالشرف الذى حظى به معظم الزملاء حيث كان يتم تجنيد كافة خريجى الجامعات بدون استثناء وكان هدفى أن لا أكون أقل منهم فى خدمة الوطن.
والسبب الثانى الذى يدعم السبب الأول هو شعورى بأننى مدين لهذا البلد حيث كنا نتلقى أفضل أنواع التعليم بلا مقابل حيث كانت مصاريف الدراسة السنوية لا تتجاوز 3.75 جنيه فى السنة والأكثر من ذلك هو تفانى الأساتذة فى نقل المعلومات وتقديم الكثير من التضحيات ليصلوا إلى أعلى مستوى من الفهم والتحصيل وهنا يحضرنى ويلح على ذاكرتى أبرز حدثين مررت بهما أنا ودفعتى فى الواقعة الأولى كان أحد المقررات هو دراسة “المساحة الجوية” والتى ترتبط بالتصوير الجوى وقراءة وتحليل الصور الجوية وهى إحدى المواد المعقدة فى حساباتها الرياضية للوصول إلى أدق المعلومات من الصور وكان الدكتور المسؤول عن هذه المادة يعقد لنا اختبارات دورية كل خمسة عشر يوماً حيث أنها كانت الأساس فى حساب أعمال السنة ويخبرنا بالنتائج أولاً بأول وفى أحد الأيام حضر دكتور المادة وعلى وجهه علامات مزيج من الحزن والاندهاش وقال فى صوت منخفض “يا أولاد النتيجة وحشة جداً” وكنا نتوقع أن ينالنا الكثير من اللوم والاتهامات بالتقصير أو ما شابه ولكن فوجئنا به يقول بالحرف الواحد “يبدو أننى لم أتمكن من توصيل المعلومة بطريقة جيدة لكم ولقد حصلت على جدول محاضراتكم وتبين لى وجود يومين فى الأسبوع تنتهى محاضراتكم فى الساعة الواحدة ظهراً وعلى هذا فسيكون لديكم فى هذه الأيام محاضرة إضافية لمدة ساعتين يومياً مقسمة إلى نصفين حتى أتمكن من إعادة شرح ما فات والتأكد من استيعابكم له وفعلاً بدأت هذه العملية وكان يحضر فى الموعد ويقوم بالشرح وإجراء حوار مع كافة المجموعة لمدة ساعة كاملة ثم يقول “كفاية كده نصف ساعة راحة” ونفاجئ بدخول السعاة يحملون مجموعة من السندوتشات لكافة الحاضرين ويقول “لأنى عارف أنكم لسه ما أكلتوش تاخذوا الوجبة دى وبعدها كوب من الشاى لكل طالب وطالبة” ثم يستأنف المحاضرة لساعة أخرى واستمر هذا الوضع لمدة أربع أسابيع ولم يتحمل أى طالب أو طالبة أى عبء وكان الدكتور يقوم بهذا العمل على نفقته الخاصة حرصاً منه على أن يخرج من تحت يديه مهندسين على المستوى المطلوب من الفهم والإدراك.
والواقعة الثانية كانت مع أحد الأستاذة فى مادة “نظرية الأخطاء والاحتمالات” وكانت تدرس حديثاً ولا يوجد لها أى كتب أو مراجع متاحة ولما سألنا الأستاذ الدكتور عن أى مراجع نرجع إليها لتحصيل المادة أفاد بأنه لا يوجد لديه سوى المذكرات التى يقوم بالشرح من خلالها واقترح أن يعطينا هذه المذكرات لطباعتها فى صورة مذكرة توزع على الطلاب وعندما قمت باستلام الأوراق منه طلب منى نسختين من المذكرات المطبوعة التى ستوزع على الطلبة وبعد الإنتهاء من هذه المهمة توجهت إلى مكتبه ومعى الأصول الخاصة به وعدد نسختين مطبوعتين حسب طلبه ولما سلمته الأوراق والنسختين أطلع عليهما وقال فى سعادة واضحة “والله فكرة كويسة أنا عينى ارتاحت أحسن من قراءة الأوراق المكتوبة باليد متشكر جداً” وعندما استأذنت قال لى “كم تكلفت النسخة الواحدة” فأجبته بأننا جمعنا تكاليف الطباعة من كل الزملاء فصاح بى غاضباً “كل واحد دفع كام” فأخبرته بالمبلغ الذى سدده كل زميل وزميلة فمد يده فى جيبه وأخرج ثمن النسختين التى حصل عليهما.
هناك الكثير من المواقف المشابهة والتى تجعلنى أشعر بأننى مدين لهذه البلد دين كبير وأننى تعلمت ليس العلوم فقط التى فى المجلدات والكتب ولكن دروس فى كيفية العطاء وكيف يقوم الانسان بواجبه وأداء مسئوليته دون أن يطلب منه أحد ذلك ولقد تعمدت عدم ذكر الأسماء لأن من المؤكد سيسقط منى بعض الأسماء والتى لا تقل فى عطاءها عن هذين النموذجين.
وعندما ينمو إلى علمى ما يحدث الآن فى المدارس والجامعات من استغلال وتجارة بالعلم وما يسمى بالدروس الخصوصية أشعر بالاشفاق والتعاطف على الأجيال الجديدة التى لم تحصل على أى قدر من تعلم المبادئ والأخلاق قبل تعلم العلوم والتى هى أخر ما يسعى إليه البشر فى التعليم حيث أنها متاحة للجميع أما الأخلاق لا توجد فى الكتب وإنما فى القدوة والتصرفات التى تشاهدها الأجيال الجديدة حولها.