مقالات ودراسات

م / عباس محمود يكتب : «الرحلة المجنونة» من البحر الي النهر

قبل الاستطراد عن المرحلة الثانية أرغب فى اخباركم بمعلومة قد تكون مفيدة وهى أن طوال جولتنا فى البحر الأحمر لاحظنا أنه لا يوجد سكان اصليين ينتمون إلى مدينة من مدن البحر الأحمر فجميعهم قادمون من مدن الصعيد أو من منطقة القناة ما عدا العاملين فى البترول أو فى ديوان المحافظة أو موظفى المحليات وبهذا لا يكون هناك من ينتمون إلى مدن البحر الأحمر كأصول بعكس ما قابلناه فى رحلة العودة على خط الصعيد فمعظمهم لهم جذور ضاربة فى عمق التاريخ وأفراد العائلات الكبيرة يستطيعون أخبارك حتى ما بعد الجد العاشر وكثير من العائلات جذورهم تنتمى إلى منطقة شبه الجزيرة العربية أو ما يعرف بأرض الحجاز حيث جاءوا إلى أرض الرخاء “الأراضى المصرية” حيث الماء والزراعة والتجارة.

وعودة إلى رحلتنا المجنونة فقد كانت محطتنا التالية بعد سلوة قبلى هى مدينة إسنا والتى كانت تعتبر فى ذلك الوقت مدينة حدودية بين محافظتى قنا وأسوان وبها معبد إسنا الشهير وأهم الزراعات فيها كانت زراعة القصب حيث أن المنطقة تنتشر بها مصانع السكر، وقضينا ثلاث ليالى نتجول فى المدينة ونشاهد قناطر النيل الموجودة فى إسنا والتى تدل على أن المصريين كانوا يحافظون على مياه النيل على مر العصور ثم انتقلنا بعد ذلك بنفس الأسلوب والطريقة إلى مدينة ارمنت التى من أهم معالمها قصر “عبود باشا” الذى كان يمتلك مصانع السكر وإحدى الشركات الكبيرة للنقل البحرى منذ عصر الملكية وكان القصر يدل على البذخ المعمارى فى كافة جوانبه ويمثل قطعة فريدة من العمارة والتى تجمع بين عدة أنماط من العمارة التى تتجانس ما بين العمارة الغربية والعمارة المصرية فى تمازج متناسق وبعد ذلك توجهنا إلى مدينة الأقصر حيث مكثنا هناك خمس ليالى وستة أيام نتجول ونشاهد معالم البر الشرقى والبر الغربى، فى الشرق يوجد معبد الكرنك وهو مدينة كاملة تحتوى على أكثر من أربع معالم ومدخلها هو طريق الكباش ومعبد الأقصر الذى يحتضن مسجد أحد الصالحين ويسمى “مسجد أبو الحجاج” وكذلك تلتصق بالمسجد جدران إحدى الكنائس مما يوحى بإحتضان المصريين لكافة العقائد بدءاً من عقائد المصريين القدماء والمسيحية والإسلام فى تناغم واضح ما بين الحضارات الثلاث، أما البر الغربى فهو المكان الذى تبدأ فيه رحلة قدماء المصريين إلى العالم الآخر حيث يوجد وادى الملوك الذى يحتوى على مقابر توت عنخ آمون – رمسيس السادس – تحتمس الأول – سيتى الأول وغيرهم كثيرين أما وادى الملكات فيوجد به مقبرة نفرتارى “زوجة الملك رمسيس الثانى” وهى تعد من أروع مقابر وادى الملكات فى البر الغربى كما توجد أيضاً مقبرة تاوسرت “زوجة الملك سيتى الثانى” وغيرهن وتعلمنا كيف كان قدماء المصريين يقدسون الموت ويؤمنون بأن هناك حياة أخرى فيها الجنة والنار، وبجوار هذه المقابر يوجد معبد الملكة حتشبسوت وهو بطراز يختلف عن باقى المعابد ويتميز بواجهته العريضة والتى تخبرنا عن قوة وقدرة هذه الملكة التى اعتلت عرش مصر فى حين كان العالم أجمع يعيش فى ظلام تام وقمنا أيضاً بزيارة قرية القرنة التى قام بتصميمها المعمارى المصرى العظيم “حسن فتحى” وكانت اقامتنا فى هذه الأثناء فى بيت الشباب بمدينة الأقصر وكان رسم المبيت فى هذا البيت عشرة قروش للفرد فى الليلة وطبعاً هذه المبالغ كانت نتيجة عملنا فى رأس غارب وفى الغردقة واستطعنا أن نحصل على عمل فى إحدى محلات التصوير حيث كنا نقوم بتحميض وطبع الصور التذكارية للسواح مقابل قرشان لكل صورة تحميض وطبع وكان الإنتاج اليومى لى وزميلى أحمد الفلال يتراوح ما بين ثلاثين وأربعين صورة وكان المبلغ يكفى بالكاد لمصاريف الإقامة والتغذية وبعد ذلك وبنفس الأسلوب المتبع توجهنا إلى الشمال حيث كانت هناك مدينة تبعد شمال الأقصر بحوالى 3كم وهى مدينة صغيرة تسمى “قفط” ويوجد بها طريق يؤدى إلى القصير بالبحر الأحمر وهى من مدن التجارة الشهيرة حيث أن طريق القصير كان يستخدم فى التجارة ما بين مصر ودول الخليج ورغم صغر هذه المدينة إلا أنها كانت تموج بالحركة وبها الكثير من الحرفيين الذين يمتهنون مهنة إصلاح السيارات وكذلك تجارة الحبوب والمواشى واقمنا فى تلك المدينة ليلة واحدة استضافنا فيها أحد كبار البلد حيث قام بواجب ضيافة عوضنا عن التقشف فى الفترة الماضية وغادرنا “قفط” متجهين إلى قنا عاصمة المحافظة بعد أن تم إمددنا بكمية لا بأس بها من الأطعمة وأهمها اكتشاف أسمه “الفايش” -والذى يتكون من دقيق معجون بلبن وقشطة ومضاف إليه كركم ومقطع شرائح وبجانب طعمه المميز فله قيمة غذائية مرتفعة جداً – وفى مدينة قنا وفى رحاب مسجد القطب الصوفى “عبد الرحيم القناوى” قضينا ليلتين فى ضيافة اتباعه ومحبيه وكان الطعام الذى يقدم لنا فى الثلاث وجبات يكفى ويزيد عن احتياج عشرات الأفراد وفى اليوم الثالث شددنا الرحيل كالعادة إلى مدينة سوهاج وأتذكر أننا بدأنا من قنا مع سائق نقل سألنا عن الرحلة التى نقوم بها ثم قال بغطرسة “اترزعوا فوق” وصعدنا إلى صندوق السيارة النقل وفى منتصف الطريق إلى مدينة سوهاج توقف عند مقهى صغير وطلب منا الهبوط ودعانا إلى شرب الشاى وطلب إفطار لثلاثتنا وتبادلت النظرات مع أحمد الفلال حيث أننا يجب أن نقوم بدفع الحساب وبعد الإفطار وشرب الشاى وعند الحساب حاولت أن أسدد الحساب فنظر لى قائلاً “يا عم انتوا معاكم حاجة الحساب ده عندى وأنتم ضيوفى” ثم أسبغ علينا بمزيد من كرمه ودعانا إلى الركوب بجواره فى الكابينة قائلاً “علشان أعرف ايه حكايتكوا بالضبط” وطوال الطريق ونحن نحدثه عن الرحلة وما قبلناه فيها وسألنا عن الأهل فأخبرناه أننا شبه منقطعين منذ أكثر من شهرين حيث لا توجد وسيلة للتواصل لكثرة تنقلاتنا وغادرنا السيارة عند وصولنا إلى نقطة مرور سوهاج وقضينا فى سوهاج ساعات قليلة حيث كان هناك المزيد من المدن فى هذه المحافظة مثل المراغة التى ينتمى إليها “الشيخ المراغى” وطهطا بلدة “الشيخ رفاعة الطهطاوى” رائد التعليم ومدينة جهينة التى تصدى أهلها للحملة الفرنسية ومدينة البلينا وبها معبد أبيدوس وهو من أجمل المعابد التى شاهدناها حيث يوجد على جدرانه طقوس الولادة وكيفية الاحتفال بالمولود ومدينة أخميم والتى تشتهر بصناعة أقمشة الحرير الطبيعى ويوجد بها أيضاً تمثال الملكة ميرت أمون ابنة رمسيس الثانى وفى كل مدينة من هذه المدن كنا ضيوف على رئيس المدينة حيث أنه كان يستقبلنا عند الذهاب إليه للحصول على تصريح لإقامة خيمتنا الصغيرة فى إحدى الحدائق أو الأماكن العامة فيصر على استضافتنا ونحظى بكرم الضيافة فى الوجه القبلى كما كنا نستمع أثناء الليل إلى الكثير من القصص المشوقة والأغانى التراثية مما لا يتسع له المقام والذى يحتاج إلى كتاب كامل لتوثيق هذه الأحداث.
وفى الجزء الثالث فى الأسبوع القادم نستكمل رحلتنا فى أسيوط حيث نتحدث عن دير السيدة العذراء فى مدينة درنكة بالغنايم والتى كانت نهاية رحلة العائلة المقدسة فى مصر وأيضاً عروس الصعيد مدينة المنيا ومزاراتها المختلفة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »